مدونة خاصة تعنى بالشأن الأدبي و النقدي وقضايا المجتمع.

Archive for جانفي, 2012

ملاحظة

حيّاكم الله

حيّــــاكم الله  

تحيتي إليكم متصفحي مدونتي

ارتأيت التعاطي معكم من خلال هذه المساحة

متمنية  أن تكون مجالاً رحباً للتواصل البنّاء

و العطاء المثري لي و لكم  .

مودّتي

زينب عيسى الياسي

معرض

جرعة حب

 

جرعة حب

 

 

 نظر إليها ببراءة طفولية .. لاحظ شيئا في عينيها يشوش عليهما ..قال بسجيته :

ـ ماما .. ما  بك ؟ أمتضايقة ؟

 

اعتادت على رقته .. ومشاعره الطفولية الصادقة .. ولكنه في هذه اللحظات تحسس موقع الألم بسرعة متناهية .. تلمس بإرهاف حسه جرحها .. فنكأه .. تواصل مشاعره معها كان قويا .. فقد كانت رقة مشاعره واضحة منذ أيامه الأولى .. لا يكاد يرى الضيق في وجهها حتى يستسلم لنوبة من البكاء المفاجئ .. وحينما بدأ يدرج .. لم يكد يراها تتوجع من شيء  إلا وأمسك موضع الألم  وربت عليه .. أو أمسكت أنامله الغضة التي بها يمتص بالتصاقه بها علقم غربتها .. لعله يرغب في مواساتها !!

وما إن يراها فرحة من شيء .. إلا يتهلل وجهه فرحا .. فتترقرق مقلتا عينيه من السعادة .. وهو يراها محيطة به .

 

من فرط مشاعره الرقيقة الطفولية ، وإحساسه الدائم بها ، كانت تحصل على دافع وطاقة أخرى من أجل تحمّل عناء الغربة ، عناء فراق وبعاد طالما سحقها، استل من رحيقها الشيء الكثير ، ففي زوايا هذا البلد الشاحب الكئيب في ناظرها ، الخضر المزهر في واقعه ، كانت تتجرع علقم الغربة جرعة جرعة ، لم تكن ترى اخضرار الأوراق ونسائم الربيع تطوحها يمنة ويسرة ، إلا وقرنتها بنفسها .. فها هي كالورقة ضعيفة  في مهب الريح..

 

ولم تر بلبلا يشدو إلا واستشعرت أنه يئن كما هو حالها في وحدتها،

ولكن في هذا المساء ، كان الحنين بها إلى البعيدين كبيرا ، إلى أمها الحنون ، ذات القلب الرقراق بالعطف، تفتقده،  تفتقد دفأه ، صوتها الرخيم يصدر نبرة يسري العبق الجميل على أيام حياتها .. وكلما رغبت في أن تسند رأسها من تعب أو ضيق .. كانت أول ما تلاقيها كتف والدتها .

و حكمة والدها، ذو الشعر الأشيب المتناثر عليه  في وقار ، تشتاق إلى خصلات شعره البيضاء التي كلما قالت له في صغرها :

ـ هل أنزع لك هذه الشعرة البيضاء أو تلك ؟

أجابها :

ـ أباك في شبابه ولو امتلأ شعره بياضا !!

كانت المحببة إليه .. فكلما دخل المنزل ولم يرها ..قال :

ـ البيت مظلم .. أينك يا …….؟

وحالما يراها .. يردف:

ـ أضاء المنزل بنورك .. أنت نوري .!.

 

كم تحبهما ، كم تهفو إلى أوتار صوتهما يوقظانها وإخوتها لصلاة الفجر .. فتقوم باطمئنان .. .. إنهما يخططان لها و لإخوتها من أجل سعادة الدنيا والآخرة ، تذهب للاغتسال والوضوء ، فتسمع صوت والدها ينساب :

ــ ( اللهم يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلّجه .. وسرّح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه .. وأتقن صنع الفلك الدوار في مقادير تبرّجه ..وشعشع ضياء الشمس بنور تأججه ……..)

وصوت أمها يتقاطر خشوعا :

ــ اللهم أعنّا على طاعتك ومرضاتك …

فيسري نسيم من الأمان والخشوع في قلبها.

 

 

       حنينها إلى اجتماع الأسرة الأسبوعي .. يتجاذبون أطرا ف الأحاديث المختلفة .. فمن حديث محلّي إلى حديث عالمي .. إلى حديث تربوي .. يستلهمون من والديهم الأفكار والعبر ..

 

      كان اللقاء الأسبوعي المحطة الأخيرة لحصيلة أسبوع كامل من الأخبار والقضايا .. وإذا طرح أحدهم مشكلة ألمّت به .. لابد أن يكون للمشورة فائدة لا يستهان بها .. من تخفيف ما يعانيه .. أو من مدّ يد العون بالمساعدة .

تختم هذه الجلسات باستئذان الوالد بالذهاب إلى غرفته للنوم .. فيبدأ الجميع بالاستئذان واحدا واحداً .. متمنين أن يكون الأسبوع القادم أسبوعا خفيفا عليهم وسريعاً حتى يحصل اللقاء أسرع.

 

وهي من بينهم قد رسم لها القدر دربا آخر .. وهو عيشها في بلاد غريبة إلى جانب زوجها ….

فمنذ أيامها الأولى للزواج .. كانت تشعر بالوحدة .. بسبب طول فترات عمل زوجها.. إلى جانب علاقاتها المحدودة بمن حولها .. بسبب اختلاف اللغة والعادات .. مما كان يزيد من معاناتها ..  .. ولكن بعد قدوم ( علي ) ودخوله حياتها .. شعرت بأبواب الدنيا قد تفتّحت .. فقد كان الوقت يمر لعمل وجبة صغيرة له .. وتنقضي الساعات لغسيل ملابسه .. وتقضي فترات لتعرف بعدها سبب بكائه .. إنّه يرغب في النوم !! . ولكنّها كانت في سعادة غامرة .

 

وبدأت أولى خطواته للمدرسة .. فأصبح له وقت معين للنوم والجلوس والدراسة .. حتى عادت لحظات الشعور بالوحدة تعاودها … وابنها يعاود الكرّة في السؤال :

ــ متضايقة من ماذا يا ماما  ؟

رفعت رأسها إليه .. تلمست قسمات وجهه البريئة .. وطافت على رأسه تضلله بكفها .. وغصّة تملأ حلقها ..  لا تستطيع أن تقول له أي شيء فهو فوق هذه الإجابة..

فسألته :

ــ وهل ستفهني ؟

فأجابها ببراءة الأطفال :

ــ ماما .. أنا شاطر في المدرسة .. لأني أفهم .. ما الذي بك يا ماما؟

قالت :

ــ تعبت من الغربة ؟

ــ لأننا وحيدان ؟

عادت:

ــ نعم

أجابها :

ــ ولكنّ الله معنا .. النبي أيوب كان صابرا .. فلنكن مثله ماما  !

 

 انهمرت دموعها .. احتضنته بكلتا يديها .. قبلت ما بين عينيه :

ــ آآآه .. يا لك من طفل كبير .. تلهمني الصبر في أحلك الأوقات .. فليدمك الباري لي.

 

 

 

2003م

 

معرض

عـــيب × عــيب

عـــيب × عــيب

عقدت حاجبيها ، برزت تقاطيع وجهها ، أفرج شدقها عن طقم أسنان اصطناعية ، كاد يسقط من شدّة حنقها ، و يسقط معه ملفعها الذي لا يبارح رأسها أبداًً حتى في أوقات منامها ، كاشفاً عن شعرها الفضي بتماوجه كتماوج مياه الخليج ، توقّفت عن كركرة “الكَدو” ، دفعت دخانه بشدة من صدرها : ـ لا حياء لك يا بنية ، عيب مشية البنت بلا ملفع أمام الكبار . أجابت مسرعة بخوف : ـ إن شاء الله جدّتي . ضربت بعصا ” القدو” على الأرض ، فتطايرت ذرّات غبار من السجاد : ـ هيا .. هيا .. لا يجلس الصغار في مجلس الكبار . قفزتْ من فورها ، تقافزت معها جذائلها ، أمسكتهما بيديها خشية أن تتنبّه إليهما جدّتها . * * * * في حوش الدار ، حيث زريبة الغنم ، جلست إلى جانب أختها ، تنظر الغنم وهم يأكلون البرسيم ، تتلاعب أسنانهم بصورة غريبة ، يتمازج سائل بالأسنان و اللسان و معهما أعواد البرسيم ، تحاول تقليد إحداهم ، تفتح فمها على اتساعه و تطبقه ، كأن لقمة سائغة فيه ، يُصدرُ فمها صوتاً شرهاً ، تحدجها أختها بسخرية ، تلكزها بكوعها : ـ عيب عليكِ .. هذه تصرفات صغار . نظرتْ إليها حائرة ، أقفلت فمها ، أسندت فكّها على راحة يديها ، تشاهد الماشية تأكل ، تشرب ، تفرغ بطنها ، ضحكتْ ، أشارت بسبابتها ناحية الغنمة : ـ “فطيم” ، انظري الغنمة . و قهقهت وهي تخفي أسنانها بكفها ، فرحة باكتشافها . ضربتها أختها على قفاها : ـ عيب .. لا تشاهديها وهي تتبرز . دُقَّ جرس الباب ، فرخة الباب تهتز ، هناك من يقف خلف الباب ، نطّت من مكانها ، سحبت ملفعاً صغيراً من حبل الغسيل ، لفّته حول رأسها ، أمها تقول : ـ البنت الكبيرة تستر رأسها عن الرجال . يومها ، سألتها : ـ لمَ يا أمي ؟! ـ عيب الرجل يرى المرأة مكشوفة الشعر . أومأت إلى أمها إيجاباً ، و لكنه محمّل بالكثير من الاستفهام . فتحتْ فرخة الباب ، أطلّ “برهوم” صبي الخباز ، بيده حزمة خبز يتصاعد منها الدخان : ـ “مريوم” ، هذا الخبز طلبه والدك ، قولي له الحساب بأربع آنات . ـ إن شاء الله . أقفلت الباب راجعة ، صوت نعال ” حمود” يسحب على الأرض ، يشي بالكسل في مشيته : ـ ألم أقُل لك لا تفتحي الباب . ـ أنا لابسه الملفع . ـ وَلَوْ .. أنت كبرت .. عيب تفتحين الباب . * * * * جلسوا حول السفرة ، صحن الرز و السمك ، الكل يأكل في صمت ، شهق “حمّود” غاصّاً ، يقافزه “أبوفاق” ، غمزته بعينها ، تقلّد حازوقته ، نظرت إليها عمّتها : ـ قليلة حيا .. عيب البنت تغمز بعينها . تسمّرت في مكانها ، ازدردت لقيماتها بتؤدّة . قبل أياّم ، في جلسة صباحية بين نساء الفريج ، جَلَستْ على عتبة باب حجرتها ، تنصت إلى حديث النساء ، قافز بإصبعها بين عتبة الباب و أرض الحجرة ، تلعب بإصبعها “التوح” ، تهفو إلى لعبه حقيقة ؛ فهي الآن كبيرة كما تقول أمها ، و عيب تلعب ” التوح” ، سمعت إحدى النساء تقول : ـ المرأة بيت عيب .. ليست كالرجل . توقّفت يدها عن القفز على العَتَبَة ، سارت بسبابتها و أصبعها الوسطى بحذر ، غطّتهما بطرف ملفعها ، و هي تنظر نحو النساء خشية أن يرينها ، تبدو الإصبعان كالأقدام ، لابد من تغطيتهما ، جدّتها تقول : ـ البنت يجب أن تتستر . بعد انفضاض النساء من جلستهن ، خَطَت “مريم” نحو غرفة جدّتها ، رأت جدّتها تقرأ القرآن ، جلست بجانبها ، أسندت رأسها على كتف جدّتها ، أنهت جدّتها تلاوتها ، خلعت نظّارتها ، و ضعتها بجانب القرآن : ـ مريم الريم ، شيخة الحريم ، ماذا تريدين؟ و هي مسندة رأسها على جدّتها : ـ جدّتي كيف تعرفين العيب . أجابت الجدّة : ـ بالنظر يا ابنتي .. انتظرت نهوض جدّتها عن كرسي القرآن ، شاغلتها لكي تنسى نظارتها ، ذهبت الجدة إلى سريرها لأخذ سنة من النوم ، اقتربت ، صافحت يديها الصغيرتين نظارة جدّتها ، لبستها ، غبش المكان من حولها ، تقافز الأثاث من حولها كأشباح طائرة ، تساءلت مفكرة : ـ لمْ أرَ عيباً بالنظارة ، جدتي قالت : العيب يرى بالنظر . ـ لا تلعبي بكشمتي (نظارتي) خلعت النظارة على عجل ، و وضعتها على كرسي القرآن . مساء .. حيث وسادتها ، و اللحاف دثارها ، حدّقت عيناها في الظلام كأوسع ما يكون ، حدثتْ نفسها : ـ تقول لي أمي عيب البنت ترفع صوتها بالكلام ، و تقول جدّتي عيب البنت تضحك بصوت عالي ، و يقول أبي عيب البنت تخرج في الطريق للعب ، و تقول “فطيم” عيب ننظر للغنمه و هي تقذف قذارتها ، و يقول “حمود” عيب أفتح الباب بدون ملفع .. لا أدري ماذا أفعل ؟ كيف لي أن لا أفعل العيب ؟ يقولون لي : كل عيب تقدمين عليه . ماذا أفعل ، العيب يحدث بنفسه من غير ما أدريه . لكن … ماذا يعني عيب ؟!! . زينب عيسى الياسي 2008م

معرض

الحـــرية عنـــوان ..

الحـــرية عنـــوان ..

 

عاشت قصة فينا ، نمت ترعرعت ، تشربت من أوداج قلوبنا حتى ترسخت، إنّ الحرية عنوان لا عنوان عليه ، مهما نعلو فوق العالم مهما نهبط نحو القاع ، فالحرية زادنا في حلّنا و ترحالنا .

 

مهما تعمقت فينا السعادة ، وتأصّلت على أفواهنا البسمة ..  فبلا حرية تغدو السعادة  جذوراً لنبتة زقوم .. و بسمة بين شفاه معتوه .

 

فالحرية حكايتها ذات جذور ، رسختها فينا أقدام أبينا ، و عصا جدنا ،      و أكفّ أبيه حملها من قلوب آبائه ، غذانا إياها مع حليب المهد ، أسقانا طعم الحرية.. و هدهدنا بترانيمها الأبية ، إن الحرية عنوان على جيد الأحرار .. لا عنوان عليه ! 

و تدرجت أكفنا و أقدامنا ملتصقة بالأرض .. بالتربة .. بالبحر ، و نحن نمرح  بين السدرة و الحنونة بحرّية .. يردد أبي عباراته :

(( الحرية كهذه الشجرة تصنع العزة )) ، فتنظر أعيننا إلى العلياء حيث أطراف شجرة  السدر ، نجدها تطاول عنان السماء ، لا يوقفها شيء فتتسامق بحرية ..

 

كبرنا و طعم الحرية مذاق كل زادنا ، و في كل لحن من ألحان أمي ، و في حكايا جدّتي التي كانت تقول :  في يوم من الأيام السالفة تصارع فارس الفرسان مع غول يعيش في أطراف البلدة ، فرض السجن على من يرفض إعطاءه محصول الأرض !!

 

بعد الخوف والانهزام  ممن رفعوا رايات الاستسلام ، و قف فارس الفرسان له بالمرصاد ، رفع الحرية شعاراً ، و أعلى من فوقه ناراً ، لكل من يخطف منّا حقاً غصباً ، و أعلنها لكل البلدة ، أن لا للإذلال ، فنحن من نملك القرار …

 

و تعلق بأطرافه أهل البلدة ،أن لا يمكنك الصمود في وجه الغول الجبار ، فسيلحق بأرضك كل دمار ، و بنا سيفتك ..

 

هز قامته   … سحب أذياله من الخانعين , ردد :

(( الحرية هي العنوان ، و بلاها يلحقنا العار ))

 

و اجتاز الطرقات المؤدية إلى و كــــر الغول ، زرع في الدرب رياحين الحرية ، بعد أن أفنى أعوان الغول المغوار ، بسيفه البتــّــار ، و انقض على الغول فإذا هو أوهن من العنكبوت ، انهار .. و انهارت معه قصة جبــّار ، و تجذرت معه جذور الحرية  في الأرض ، الوطن ، فلولا الحرية ما عاد لنا عنوان !

 

 و تحفر الحرية في أعماقنا قصصا و حكايات من أيــّـــام العزة للأبــــاء   و الأجــــدا د .

 

حدثنا أبي يومــاً فقال :

يا أبنائي …

للحريــــة معان ، ففي حائها : حربــــة تسددها لكل من يحاول أن يكمم فاهك ..

و في رائها : رايـــــة ترفعهــا على تراب أرضك .

و في يائها : يـد الله مع من يحمي وطنه  .

و في هائها : هـــــــواء يتنسمه الأحرار ، كل من لم يخنع بالهزيمة شعاراً ..

 

و وصايا أبي تطرق الآذان ، تحفـــر في العقل بأس و قـــوّ ة  ، و في القلب دروباً عبقة  ، يتــردد صداها في الآفـــاق ….

 

يا أبنــــــــائي …

موتـــــوا أحــــرارا ً.. و لا تعيــــشوا أذلاء.

 

 

8/8/2003م

 

معرض

وفــات الأوان

وفــات الأوان

انهمرت الدموع من مآقيها ، راسمة دربها على خدّيها ، حاملة اللوعة و الحسرة المحمَّل به قلبها على ابنها ، فلطالما آلمها بجفائه و قسوته عليها ، سمعها تناديه بعد أن رأت شخصه مارا أمام غرفتها : ــ ســامي … سامي . أطلَّ عليها من الباب قائلا على عجل : ــ نعم ماذا تريدين ؟! . ــ كأساً من الماء . بعد تردد قالتها . ــ أنا في عجلة من أمري ، أطلبي ما تريدين من الخادمة أو غيري . قالها وهو يدلف من أمامها ، مغلقاً الباب خلفه . أنجبت خمسة من الأبناء ، ابنتان و الآخرون صبية ، غمستهم الحياة بهمومها و انشغالاتها في جوفها حتى أعيا كلا منهم الخروج من مستنقعها ولو من أجل التزود و لو بشيء يسير إلى داره الأخرى ، فلكل منهم أعباؤه الخاصة بعد زواجه ، ( سامي ) من بينهم عاش معها بعد زواجه بسبب ظروفه المادية ، و لأنها تسكن وحيدة بعد وفاة والدهم إثر نوبة قلبية ، اضطر للعيش معها ، و لولا ذلك لما رأته إلاّ في المناسبات كحال إخوته ، قالت بصوت يتخلله الألم : ــ ربَّيته في حجري ، دأبتُ في تعليمه حتى اشتدَّ عوده … و هذا جزائي ؟!. غاصت بها أفكارها في شريط ذكريات تعود إلى أعوام خلت ، تذكّرت يوم ولادته ، يومها أشرقت الدنيا في عينيها ، ربيعها تجدد و اخضر ، شخصها تنفس النور من جديد في تناسخ فريد صاغته يد القدرة الإلهية بهيأة طفل ، وقتها عاشت أبهى لحظات عمرها ، حمدت الباري حمداً بالغاً إذ رزقها صبي بعد ابنتين ، فهو من سيرفع اسم أبيه . ــ ما رأيك تسميته بـ ( سامي ) ؟ قالت بفرح . ــ اسم جميل . أجابها والده . ــ أتعرف ، نسميه سامي ليكون سامياً في كل شيء ، في أخلاقه و أفعاله و علمه و كل شيء . تنهّدت لذكرياتها و ماضيها الذي حُمّل الأماني الكثيرة و لكنّها آه ، تأوهت بألم : ــ ما الذي فعلته معه ليصبح بهذه القسوة و الجفاء ؟! أتراني قصّرت معه ؟ .. لا أدري .. لا أدري . قالتها و هي تشيح بوجهها يمنة و يسرة ، محاولة إلغاء ذكريات قفزت إليها فجأة ، بمجرّد نطقها بكلمة ” قصّرت معه ” . ــ أصحيح قصّرت معه .. لا .. لا .. هو يتصرف من نفسه بهذه التصرفات معي . حاولت إلغاء ما جاءها من أفكار بإلقاء اللائمة على ابنها و سوء خلقه ، لكن الذكريات تشبثت بعقلها فارضة عليها الخروج إلى أرض الواقع ، لابد لها من الخروج ، لعلها ترتاح ، أو لعلها تستطيع تدارك ما فات أوانه . كثيرا ما رددت والدتها على مسامعها : ــ يا ابنتي بقدر اهتمامك بطفلك و ترعيه ، سيهتم بك يوماً و يرعاك . كانت تجيبها بحدّة : ــ أنا أوليه جل اهتمكامي بقدر استطاعتي ، و لكن أن أتخلى عن طموحي و كياني من أجل البقاء بجانبه و تلبية رغباته فهذا محال . ــ يا هناء ، كيانك و طموحك لا ينفصل عن ابنك فهو جزء منه . تتمتم في نفسها : ـ كان هناك دائما تبريراً لأفعالي ، لا أتوانى في إشهاره للنور . ـ ساعات الصباح فقط لا تؤثر في شيء . تجيبها والدتها : ــ يا ابنتي ، الطفل في سويعات الصباح أكثر حاجة لأمه و إلى حنانها و عطفها ، فهو يستلهمها منها ، فيعوضها بها في كبرها ، حينما تكونين بحاجة لمن يعطف و يحنوعليكِ فأيُّهما تفضّلين ؟؟ بالطبع تفضلين القريب إلى قلبك و ليس الغريب ، كذلك الطفل أيُّهما أفضل له ، أن يفتح عينيه على أمه أم على الخادمة التي هي انسان غريب عنه في كل شيء ، و ليس بينهما أية عاطفة ، تؤدي المفروض عليها من أجل مكسب مادي . ــ و هل أقضي عمري في خدمته . ــ هي ليست خدمة يا حبيبتي ، هي بذور ستحصدين ثمارها يوماً . اعتدلت في جلستها ، أنَّت من أعماقها ، فكبر السن قد أوهن عظمها ، و ما تحصده من ثمار أدمت أعماقها . تصارح نفسها بالحقيقة : ـ لقد كنت أتركه ساعات طوال برفقة الخادمة ، و لا أرى في ذلك نوعاً من العقوق لأبنائي ، و إضافة إليه لا أتوانى في تركه ساعات أ ُخر من أجل قضاء حاجاتي الأخرى ، تسوّق ، زيارات ، و ليتني اقتصرت على ذلك .. ليتني .. كنت أضيق به ذرعاً و بإخوانه في وقت قيلولتي ، أو وقت مشاهدة التلفاز ، كنت أشعرهم يخنقوني بطلباتهم ، فهذا يبكي للفت انتباهي ، و هذه تتذرع بالمرض لأكون إلى جانبها ومع ذلك كلّه لا أتردد في ترك الأمر للخادمة ، إعطاء الدواء لهذا أو لإسكات تلك . ما فتئت والدتي تقول : ــ الأطفال أمانة الله إلينا ، فلنحسن الحفاظ على أمانته التي أودعها لدينا ، فنحن محاسبون عليها . لم يكن هذا الكلام يلقى أذناً صاغية ، و لم يؤثّر فيَّ ، فقد كان هناك الكثير مما يشغلني . تحادرت دموعها مدرارة ، فقد أوهنت الذكريات منها كل جلد ، تراخت أطرافها ، خفت أنينها ، و كان وشاح النوم خير ساتر لآلامها ، رأت نفسها في صحراء قاحلة ، قائضة ، تلهب حرارتها الجوف قبل الأجساد ، خالية إلاّ من أعشاب متفرقة ، تبحث عن شجرة تتفيَّأ ظلالها ، تسير في كل تجاه ، يعييها المسير ، تبرك أرضاً ، تمسك بقبضتيها الرمال ، تتطاير نثاراً من بين فرجات أناملها .. تردد بانكسار: ــ ها أنذا أجني ما زرعت .

 2003م

معرض

حرية المرأة إلى أين ؟!

حرية المرأة إلى أين؟! 

تتعدد وجهات النظر حول الحرية ، و مفهومها لدى الأفراد بشكل يمكننا أن نصنفها ( الحرية ) إلى ثلاث وجهات على أقل تقدير :

(1) من الناس من يرى أن الحرية هي أن تعبر المرأة عن شخصيتها و فكرها ورؤاها بصورة لا تختلف فيها عن أي امرأة أخرى، سواء كانت غربية أو شرقية . فالمهم أن تقوم بما تشاء ، كيف تشاء ، متى تشاء !.

بالرغم من أن أحد أتباع هذا الصنف تراجع عن هذه الفكرة التي سببت خللا في توازن الكيان المجتمعي بشكل كبير فنجده ( بيير داكو) في كتابه القيم ” المرأة بحث في سيكولوجية الأعماق ” يقول : (( لم يسبق للمرأة أن كانت مسحوقة ، و منهارة ، و مستعمرة ، و خامدة ،مثلما هي عليه الآن )) .

(2) و من الناس من ينظر أن الحرية ما دامت لا تتعدى القانون المفروض فهي مباحة ، و للمرأة أن تمارس حريتها كيف تشاء . و قد يكون هذا القانون هو العادات و التقاليد . فما دامت لم تتعد عادات و تقاليد مجتمعها ، و لم تخرج من إطار ( العيب الاجتماعي ) فلها مطلق الحرية . و كأن الضابط هو المجتمع .

(3) والصنف الثالث من يرى أن المرأة مخلوق كالرجل لها حقوق و عليها واجبات . تمارس حريتها وفق هذه الحقوق و تنضبط وفق ما عليها من واحبات . و الذي يكفل لها هذه الحرية هو معتقدها الديني (الإسلام)، فهو الذي يحدد مسئوولياتها و حقوقها من الضياع و الانفلات . و أتوقف في حديثي عند هذا الصنف الأخير لما له من الأهمية و الحاجة لتتعرف المرأة المسلمة أين تضع قدميها بين هذه الأصناف و التيارات المختلفة و الموجهة نحوها .

لقد كرّم الله المرأة و صان حقوقها في كافة المجالات الحياتية ، و دعاها من من خلال السيرة الشريفة للمطالبة بحقوقها ، و التعبير عن آرائها بلا خجل أو وساطة رجل . فهي تطرح مشاكلها ، و همومها أمام رسول الله و تطلب منه المشورة و الحل بلا تردد . رغبة منها في نيل حقها و هي بكامل عفافها و حشمتها مهما صغر هذا الحق أو كبر . ففي أحد الأيام . جاءت صحابية إلى رسولنا الأكرم تشكو إليه زوجها ، و نفور نفسها منه ، و سوء هندامه ، و تطلب الطلاق . فأمر النبي (ص) بأن يُحضر زوجها . فلما حضر. إذا هو أشعث أغبر . فطلب منه أن يستحم و يتطيب و يأتي بعدها إليه . فذهب و عاد بعدها بكامل زينته . نظر النبي إليه و قال لزوجته : أترضين به الآن . قالت : الآن ، نعم . و العديد العديد من مواقف السيرة النبوية و سيرة الأئمة الأطهار ما يدل على فتح أبواب الحرية على مصراعيه للمرأة كما إن للمرأة دوراً أساسيا لمعالجة و تحقيق أهم القضايا ، و ليس أدل على ذلك من اصطحاب إمامنا سيد الأحرار لأخته زينب الكبرى لتمثل دوراً كالذي يقوم به (ع) ، و لكنه دور يناسب كيانها و وجودها كأنثى ، و قامت به و هي بكامل عنفوانها و إلى جانبه حشمتها و عفافها . لكن ما نراه في عصرنا الحالي من تماهي المرأة مع صيحات التحرر ، و التي انطلقت بلا ضوابط و حدود لتجرف في طريقها كل القيم الدينية و الاجتماعية من دون التفريق بين قيم هي بمثابة أعراف اجتماعية معيقة للمرأة عن نموها و تطورها ، و قيم لابد من وجودها لتقف كسدود في مواجهة الشهوات المنفلتة التي تتربص بالمرأة أكثر من غيرها ، و تبتغي اقتلاعها و تجريدها من ثوابتها (عفافها) . فلا يخفى على عاقل أن العبثية التي وُضعت المرأة فيها من حيث علاقتها بالرجل ، و انحدار هذه العلاقة إلى مستوى الحيوانات الغريزية ، جعل المرأة مستعبدة فكرياً و روحياً و جسدياً . و لم يرقَ بها كما هو مزعوم من قبل دعاة التحرر .

آمل أن تمتلك النساء في مجتمعاتنا الجرأة الكافية لتحديد خياراتهن بحيث تكون منسجمة مع تعاليم دينهن المنفتح و المتسع باتساع الكون لأن يحتضن آمالهن و آلامهن بصورة تبرز طاقاتهن ، و إلى جانبه تحفظ كرامتهن .

معرض

الإيقاع الشعري بين الداخل و الخارج.

الإيقاع الشعري بين الداخل و الخارج.

 

في مختلف القضايا الفكرية و الأدبية و الحياتية نجد الشد والجذب بين القديم  والحديث، فمن مؤيد للقديم ومتشبث به ومن داعم للحديث ومتحفز له   وبينهما تكون الساحة الفكرية قد أنعش مواتها بعد طول ثبات .

   من القضايا النقدية التي تحركت في هذا المجال وكانت محورا للاختلاف والتنوع النقدي قضية الإيقاع في النص الشعري، فقديما كان الإيقاع يعد أمراً خارجياً يعول عليه النص الشعري في متانته و سبكه؛ فالألفاظ الظاهرية والمعاني الخارجية تعد القوام المهم والركيزة الأساس للحكم بالفحولة الشعرية من عدمها، مما جعل الشعراء يغرفون من بحر البديع والبيان ما يرصع قصائدهم  ويوشيها بحلله القشيبة ، فارتفع سقف الصناعة الشعرية و ازدهر 

وهذا لا يعني أن من الشعراء القدماء من لم يكن يعنيه الأمر برمته لاعتداده بشعره أو لمعرفته برسوخ فحولته ، فنراه يقول :

أنام ملء جفوني عن شواردها                   ويسهر الخلق جراها و يختصم

  بينما نجد الإيقاع في القصيدة المعاصرة قد تجاوز شكله الخارجي بعد اكتشاف الأبنية العميقة في الشعر نقدياً، فوراء الرؤية رؤيا، وخلف الواقع حلم رائق، ووراء البنية أسلوب، و وراء الإيقاع الخارجي إيقاع داخلي كالطيف يغفو كلما انتبهنا إليه، ويصحو كلما غفونا عنه كما يلاحظه الشاعر والناقد ت. س.إليوت.

هذا المفهوم للإيقاع الداخلي اتسع ليشمل الأنظمة غير السمعية كانتظام الألوان و تراسل الحواس وإيقاع الكتابة والفراغ وأثرها في نفس المتلقي على النحو الذي تفعله الأذن أو أبعد تأثيراً، فنجد شاعرا كعلي بافقيه يصور الأم وفعلها فيقول :

تمسكني من يدي/ تُذَهِّبُ روحي/ و تَذْهَبُ بي للمسيل/أستقي/ حين تثقلني قربة الأهل أبكي/ و أخرج من دمعتي/ حين تلبسني لحظة/ أتصادى و أمي/ تضمد أعباءها بالمواويل/ أصفو/ و أصفو فيصعب وصفي.

هذا الرنين السيني الزاحف، والهامس على وتر القلب حرك الإيقاع الداخلي والسكونية، ورسم صورة تتجاوز القالب الإيقاعي إلى حركة تسجيلية لفعل مستمر في ذهن الشاعر، وصورة تتراءى أمام المتلقي، وهنا يكمن التحول في الإيقاع بين القديم والجديد، فبعد أن كانت شغل الشاعر الوزن والقافية صار شغله رجع الصدى في الأذن.

**  **  **  **

ومضة.

من أجمل وظائف الشعر تعميق علاقة الإنسان بالكون و بما حوله من حيوات.

 

 زينب عيسى الياسي

ملاحظة : نشرت هذه المقالة في الملحق الثقافي (مرافئ) بجريدة الوطن العمانية .

أبواق فضفاضة أم حفر في الوجدان؟

أبواق فضفاضة أم حفر في الوجدان؟

نسمع الصوت الأنثوي تتردد أصداؤه في مختلف المجالات المعرفية والثقافية بشكل لافت للإنتباه، فبعد أن كان حبيس الجدران في سنين السبات الأممي نجد صوتها في العقود الأخيرة يتأرجح من الهمس و البوح الخفي إلى صوت متردد متأد و إلى صوت صياح و كأنه صياح ديكة لا يعرف ليلا من نهار.

هذا الأمر حرض النقاد للنفاذ إلى التجربة الإبداعية النسوية لسبر أغوارها فخرجوا إمّا ناقمين على التجربة النسوية التي لم تخرج عن حيز رجع الصدى، بينما خرجت فئة أخرى بشيء من الصواب في أن النتاج النسوي لم يخرج من شرنقة الذات أي بمعنى أن المرأة الأديبة لم تتجاوز التعبير عن الذات إلا لتعبر عن الذوات النسوية المحيطة بها، ذلك لأنها لا تمتلك القدرة على التعبير عن الآخر والهم الجمعي و القومي.

إنّ الساحة الأدبية مليئة بالزخم الإبداعي النسوي الذي تجاوز الذات إلى تعبير عن الهم الجمعي سواء المجتمعي أم العالمي، فالشاعر أو الكاتب ابن بيئته لا يمكنه الإنفصال عنها ـ فيطير محلقاً في الأجواء، حالماً، غائباً عن أوجاع من حوله ـ و هذا هو حال العديد من التجارب الإبداعية النسوية التي ارتقت في مستوى أدائها فنقلت رؤيتها للعالم بتقلباته و تغيراته ببؤرة نظر مغايرة عن الرجل الأديب، وخير مثال على هذا الأمر رواية “الحفيدة الأمريكية” للكاتبة إنعام كجه جي، حيث انتقلت بنصها إلى وجدان الأمة العراقية ورسمت مفردات ألمها ووجعها بشيء من الإنسانية المتنصلة من الرواسب الإرثية الناقمة على الإحتلال و ذله إلى حالة من المزاوجة بين كلا الشعورين، شعور بالأصالة و الماضي ـ بالنسبة للجدةـ و شعور بالحس المهني والوطني ـ بالنسبة للحفيدةـ، فأبرزت قذارة الاحتلال بحيادية الحصيف الذي لا يخفى عليه الدم القاني المراق و إن كان ممثلا بورة حمراء، و رصد الكاتبة لحالة التشتت في المشاعر و التناقض في الأفكار الإنسانية و التوزع في الانتماء، و كأن هذا الأمر سمة إنسان هذا العصر.

هكذا إبداع جدير بأن يلفت النقّاد إلى أمر من الأهمية بمكان، وهو:أن المبدع أياً كان يحتاج إلى أن يعبر عن ذاته بأوجاعها و همومها ليتمكن لاحقاً من التحرر منها، فيرسم ملامح العالم حوله بصورة واقعية وإنسانية متحررة من الرواسب الذاتية التي غالبا ما تكون أحادية النظرة.

** ** **

ومضة.

كن كما تريد أن تكون و ليس كما يراد لك أن تكون.

زينب عيسى الياسي

ملاحظة : نشرت هذه المقالة في الملحق الثقافي (مرافئ) بجريدة الوطن العمانية .

معرض

اللغة سر الثقافة

اللغة سر الثقافة .

     قبل عدة أيام، ذهبت لشراء جهاز تسجيل( الi pod) من أحد المراكز التجارية وعلى أساس أني عربية ورغبة في موالاة لغتي، طلبت من البائع كتيب المعلومات بالعربية، ابتسم بتعجب! و أردف، في الكتيب الكثير من اللغات عدا العربية، و قال متجاوزا الموقف، ألا تعرفين الانجليزية ؟  و رغبة منه في كسب زبونة قال:  يمكنك القراءة بها.

     جميل أن يكتسب المرء لغات أخرى، فبها يكتسب عيناً أخرى يرى بها  العالم برؤية أعمق، وأدق ، لكنني سهمت لحظة لشعوري بأني أغوص في رمال متحركة ستبتلعني يوما وأنا في أرضي.   

    هل أنتم معي في أن الأقوام تتشبث بلغتها ، لأنها تعني كينونتهم ووجودهم ، لذا نجدهم يحنون لها الهام ( ممثلا بالعَلَم )،  يطلقون العنان لأخيلتهم من خلالها، فتورق المكتبات والكتب بشتى المعارف والعلوم، فهي  وسيلة التواصل الكبرى بين الشعوب والأقوام، منذ قدم التاريخ وحتى المستقبل اللامنظور.

    فاللغة حلقة الوصل بين مختلف الحضارات و الشعوب، وهي الوسيلة الأنجع لحوار الآخر وفهمه و إفهامه وبالتالي يكون هناك الجسر المتزن لانتقال الأيديولوجيات و الأفكار.

    لذا نجد اللغة المعاصرة تنوعت بتنوع وسائل الاتصال، فبعد أن كان التواصل بالألفاظ و المعاني في الرقعة الجغرافية الواحدة، صار التواصل الرقمي والرمزي  والإشاري  وسيلة الاتصال مع العالم الأكبر، وهذ ايتطلّب من الأمم أن تقف وقفة متأملة لموقع لغتها بين هذه الأمم.

      في خضم موجة الحوار الحضاري أو الصدام الحضاري كما يراه صاموئيل هنتنجتون، نحتاج  للتواصل مع الشعوب الأخرى من أجل نقل ثقافتنا العربية والإسلامية المحبة للسلام والعيش مع الآخر بأخوة، لكن ليست لغة الآخر هي الهدف، بمعنى أن لا تكون لغة حوار ولغة تواصل ولغة تفكير ولغة تعامل يومي، فهي من المفترض أن تكون وسيلة وليست هدفاً، وإلا سننسلخ من لغتنا فنصير عرضة لتغييب هدفنا من التواصل مع الآخر، فعوضاً عن انتقال ثقافتنا، نصير متلقين فقط لثقافة الآخر وأفكاره وأيديولوجياته، وهنا مكمن الخطر.

     اللغة محضن الثقافة و المعرفة و إن غابت فهو غياب للأمة.

 

**   **   **

ومضة.

قال تربوي ياباني  لمثقف خليجي: لن تستطيعوا النهوض بأنفسكم و تطويرها مادامت لغة العلم عندكم تختلف عن لغة التفكير والتخاطب ، ذلك لأن النهضة والتطور ينتج بالتفكير.

 

                                                          زينب عيسى الياسي

 ملاحظة : نشرت هذه المقالة في الملحق الثقافي (مرافئ) بجريدة الوطن العمانية .

     

   

 

    

عبق التاريخ روائياً

عبق التاريخ روائياً

أذكر أيام الطفولة فتحن روحي إلى شيء أثير حرمه أبناؤنا في هذا الزمان، حرموا من نبضه و من دفئه و من إثرائه للخيال. إنه الحكاية أو السالفة كما أسميناه صغاراً، نجلس مجتمعين حول جدتنا نستمع إلى الخرّافة و القصص التي تبحر فينا إلى عالم الخيال و التاريخ والأساطير بشكل كنا لا نريد لهذه الحكايا أن تنتهي أو لفم جدتي أن يفتر أو يعلن إتمام القصة. و غابت عنّا حكايا التاريخ بغياب الجدة و تقافز أعمارنا عن مدارج الطفولة، لكن بقي لهذه الحكايات رسوخ في العقل و الوجدان، أحن إليها و إلى سردها لأبنائي و إلى من الأطفال و اليافعين الذين حرموا من هذه المتعة الفكرية الجميلة، إلى أن وجدت ضالتي في الرواية المعاصرة حيث التمازج بين الحكاية والتاريخ، فقد صارت الرواية لدى العديد من الأدباء محضناً للتاريخ، و هذا أثرى النص الروائي و ألهب المساءلة للماضي وللحاضر في الآن ذاته، و من زاوية آخرى بث الروح في التاريخ، الذي كان إلى عهد قريب يعتمد التوثيق كوسيلة للكتابة.

إن الرواية المستفيدة من معطيات التاريخ يمكنها أن تكون محضنا آخراً لعودة السالفة والحكاية القديمة بشكل معاصر، ومجالاً للسرد الحكائي و لبث الإرث التاريخي الذي تحمله منطقتنا الخليجية والعربية إلى الأجيال، كما يمكنها تبني المادة الحكائية المشوقة التي تضخ التاريخ بصورة أدبية و فنية وجمالية، والنصوص في هذا المجال كثيرة، فنص “النواخذة”على سبيل المثال للروائية الكويتية فوزية السالم يعيد حقبة تاريخية أثيرة لأهل منطقة الخليج، فهو يعيد رسم تاريخ مهنة وحرفة طالما ارتبطت بإنسان الخليج، كما يرسم تاريخ المنطقة و ما مرّ بها من ظروف وأهوال ( السيول ـ الطاعون ـ الجفاف ) .

كما نجد في السنوات الأخيرة نتاج زاخر من الروايات والقصص الخليجية التي تضيء شعلة التاريخ بين دفتيها، ذلك استشعاراً من الأدباء بأهمية إحياء تاريخ المنطقة، ورغبة في حفظ مخزون الذاكرة الجمعية من الاندثار. إن الزمان قد عاد بعودة التاريخ إلى الأدب، وعودة السالفة و القصة و الرواية بقالبها الأدبي المشوق، فحين يجن الليل، وتطفئ الأم الأنوار يمكنها أن تقتنص من الروايات المليئة بالتاريخ ما يسد شغف الأبناء وما يرفع من كفاءة الآباء في استشعار أنهم أدّوا أمانة غرس نبض الأرض وتاريخها في قلوب وعقول الأبناء وبحلة جديدة. ** ** ** ** ومضــة. إحتضان و إحياء الأدب في البلاد يعني إحياء لإنسانية الإنسان.

زينب عيسى الياسي

معرض الوسوم